مستقبل القضية الكردية في العراق
تطورت نظرة معظم القوى السياسية العراقية نحو القضية الكردية، لكن الاختلاف بينها ما زال قائما ويتعاظم أحيانا خصوصاً بتعاظم دور الكرد وبعض النزعات التي برزت على السطح بعد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق حول مضمون هذه الحقوق وحدودها ومستقبلها فضلاً عن اختلاف زاوية النظر إليها بما فيها ما يتعلق بوحدة العراق أرضا وشعباً.
العلاقات العربية الكردية
العلاقة مع إسرائيل
حقوق المواطنة
العلاقات العربية الكردية
تحتاج المعالجة السليمة للقضية الكردية إلى نقاشات علنية وصريحة وواسعة وإلى توفير اقتناعات مشتركة وعامة في ظل ضمانات قانونية ومشروعة لتطور العلاقات العربية الكردية في عراق دستوري موحد.
"
من الضروري إيجاد صياغات دستورية مقبولة فيما يتعلق بالعلاقات بين عرب العراق وكرده لتأسيس علاقات على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي
"
وتثير "الضمانات" التي وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وفي الدستور العراقي الدائم الكثير من الإشكاليات والتداعيات وربما ستثير المزيد منها في المستقبل، مما يقتضي البحث عن صياغات مقبولة فيما يتعلق بهذه الضمانات أو بغيرها لتأسيس العلاقات والاتحاد الطوعي على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي جديد وليس بنصوص مشوشة.
يضاف إلى ذلك أن صدور الدستور في وقت وقوع العراق تحت الاحتلال بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1443 الصادر في 22 مايو/أيار 2003 أو القرارات التي تبعته بما فيها القرار رقم 1500 أو 1511 أو 1546 يجعل تلك الضمانات غير مضمونة، فضلا عن إمكانية الطعن فيها من الناحية القانونية والسياسية، ولذلك وعلى صعيد الوضع المستقبلي اقتضى الأمر البحث عن ضمانات دستورية لتأمين الشراكة العربية الكردية مع بقية الأقليات وفي ظل أوضاع سليمة وبعيدة عن التداخلات الخارجية التي تجرح السيادة الوطنية العراقية وتعوّمها.
ويمكن القول إن هناك تحديات وتهديدات ومخاوف تعترض طريق العلاقات العربية الكردية ليس على صعيد الوضع الداخلي العراقي فحسب، بل على الصعيد العربي والإقليمي وكذلك على الصعيد الدولي أهمها:
محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في تاريخ العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي. وقد يذهب البعض إلى تحميل عرب العراق بل والعرب عموماً ما قام به صدام حسين ونظام حكمه طيلة السنوات العجاف الماضية، ولا شك أن هذه النزعات ستساهم في تعميق الخلاف بل إنها ستثير نقاطا خلافية أخرى، ولعل التحفّز والاستقطاب الذي جرى في كركوك والموصل عقب احتلال العراق ومناطق أخرى ليس بعيداً عن هذه الأجواء وعن بعض المساعي المحمومة لإحداث نوع من الصدع في الوحدة الوطنية، خصوصاً الصدامات وأعمال العنف والاحتكاكات الإثنيّة والرغبة في الاستحواذ على مراكز النفوذ.
وليس من باب الاتهام المسبق الإشارة إلى بعض القوى الخارجية والإقليمية التي ظلّت تعزف على هذا الإيقاع لأسباب مصلحيه تعود إلى رغبتها في تأمين مصالحها السياسية، التي قد تكون على حساب الكرد والعرب بل إن الوقائع في السابق والحاضر تقودنا إلى القول إن تلك القوى لم تكن بعيدة عن إثارة وتعميق النعرات وتضخيم نقاط الاحتقان والتوتر.
مساعي العزل
إن هناك مساعي حثيثة لعزل العرب عن الكرد واتهام الكرد باعتبارهم أحد المسؤولين عن الاحتلال خصوصا أن الحركة الكردية تعاملت مع نتائجه. وقد تكون بعض المواقف والتصريحات بشأن ما حدث في الفلّوجة أو النجف أو الرمادي أو غيرها خصوصا أعمال العنف والقسوة التي استخدمتها قوات الاحتلال وبخاصة العقوبات الجماعية والقصف العشوائي سببا إضافيا في ذلك، ناهيكم عن مسؤولية المشاركة في الحكم وما تقوم به أجهزة الحكم من أعمال قمع.
"
جرى إظهار العروبة على أنها مسؤولة عما حدث للكرد بينما تم اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب والعروبة
"
السعي لإظهار العروبة باعتبارها مسؤولة عما حدث للكرد، مقابل ذلك السعي لاتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب والعروبة. إن العرب غير مسؤولين عن الاجتهادات أو المواقف الخاطئة لبعض النّخب العربيّة بما فيها سكوت بعضهم عن أعمال القمع والإبادة التي تعرض لها الشعب الكردي، مثلما هي اجتهادات بعض النّخب السياسية الكرديّة بخصوص العامل الخارجي والتعويل عليه في الإطاحة بالنظام السابق لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا من جانب العرب والعروبة لاتخاذ مواقف سلبية أو لا مبالية إزاء الكرد ومن حق تقرير المصير أو الفيدرالية أو غير ذلك من الصيغ المناسبة لحل القضية الكردية.
لا شك أن هناك نزعة استعلائية عربية ونظرة قاصرة ضيقة الأفق بشأن موضوع الفيدرالية التي غالبا ما تقابل باعتبارها الخطوة الأساسية نحو الانفصال.
وتمثل هذه النظرة الخاطئة استمرارا للموقف من حقوق القوميات والأقليات وحقوق المرأة وحقوق الإنسان بشكل عام، ومن جهة أخرى فإن هناك نزعات ضيقة الأفق لدى بعض القيادات والأوساط الكردية خصوصاً التعويل على التدخل الخارجي الذي قاد إلى الاحتلال، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مبرراً لتفتيت الوحدة الوطنية أو التنصّل من استحقاقاتها.
ولا ينبغي أن يكون رد الفعل عليه مبرراً لاتخاذ موقف سلبي من حقوق الشعب الكردي، مثلما أن معاناة الكرد ومأساتهم لا ينبغي أن تكون مبرراً لتجريح العروبة والعرب حتى وإن كانت مواقف بعضهم خاطئة خصوصا السكوت عن ما ارتكبه نظام صدّام حسين أو تبريره.
ولا ينبغي بالمقابل اتخاذ مواقف تجريحية بحق الشعب الكردي على أساس الخلاف حول مواقف بعض القيادات الكردية، بل يقتضي الأمر النظر إلى بعض العوامل الضاغطة وحملة التضليل والدعاية في السابق والحاضر.
ولا يمكن تحميل العرب كلهم أوزار ما ارتكبته بعض الحكومات العراقية، كما أن مشاركة جماعات كردية باسم الجحوش وحرس الحدود والفرسان في قمع الشعب الكردي لا يمكن اعتباره موقفاً كردياً بأي شكل من الأشكال، وكذلك لا يمكن اعتبار مواقف بعض المليشيات الكردية حالياً مواقف لعموم الكرد.
وينبغي أن لا يُقدم ما هو طارئ ومؤقت وآنٍ على ما هو إستراتيجي وثابت وبعيد المدى، إذ إن ما يربط الكرد بالعرب سيكون بالتأكيد أكثر بكثير مما يربطهم بالولايات المتحدة، حتى وإن بدت الصورة الحالية غير ذلك، لكنها ستكون بلا أدنى شك مؤقتة وآنيّة وطارئة، بل إنها لا تعكس حقيقة العلاقات بين الشعبين رغم بعض المشكلات. ولا يمكن استبدال العرب بشعب آخر كما لا يمكن استبدال الكرد بشعب آخر، ولهذا اقتضى الأمر التعايش والتفاهم والبحث عن المشترك الإنساني، ومثل هذا الأمر يشمل علاقة الكرد بالفرس وعلاقتهم بالأتراك وغيرهم.
العلاقة مع إسرائيل
"
تضررت العلاقات العربية الكردية من تداعيات استمرار الصراع مع إسرائيل وما يشاع عن علاقات كردية مع تل أبيب ووجود إسرائيلي في شمال العراق
"
تضررت العلاقات العربية الكردية من تداعيات استمرار الصراع العربي الإسرائيلي، إذ تتعامل بعض النخب والاتجاهات الكردية بشيء من عدم المبالاة مع المعلومات الخاصة بالعلاقات بين الكرد وإسرائيل بذريعة أن العرب والفلسطينيين أقدموا على إقامة مثل هذه العلاقات، فلماذا تثار الضجّة حول الكرد؟ وكذلك ما قيل عن محاولات إسرائيل اختراق الوضع العراقي وفي كردستان تحديداً وبخاصة في ظل الأوضاع الأمنية المنفلتة والفوضى العارمة بعد الاحتلال وهو ما نشرته مراكز أبحاث ودراسات غربيّة وإسرائيليّة.
وقد بادرت بعض القيادات الكردية إلى التشكيك في صحة تلك الأخبار التي أثارت قلقاً عربيا واسعاً وحساسية خاصة قد تؤدي إلى اتخاذ بعض المواقف الخاطئة إزاء القضية الكردية.
وإذا كانت حساسية العرب مشروعة إزاء مواقف عدم المبالاة بخصوص ما يجري لعرب العراق والمناطق الساخنة التي تتعرض لمعاناة مستمرة بسبب العنف والاجتياح الأميركي بمساعدة قوّات حكوميّة وفرق الموت ومراكز التعذيب، وإزاء الموقف من القضية الفلسطينية فإن الحساسية الكردية مشروعة إزاء المواقف السلبية الخاطئة من معاناتهم الطويلة والموقف الرافض لفكرة حق تقرير المصير والفيدرالية بما فيه التشكيك في مجمل مواقفهم وحقوقهم.
وإذا كان موقف العربي الذي يعتز بقوميّته من حقوق الشعب الكردي ومن قضيّة حقوق الإنسان يشكل محكّاً للموقف الإنساني، فإن موقف الكردي المعتز بقوميته من حقوق شركائه في الوطن العراقي وبشكل خاص عرب العراق وبالتالي من القضية الفلسطينية التي تشكل جوهر الصراع هو الآخر محكّاً للانفتاح القومي والإنساني وبخاصة إزاء الشركاء. ويشكل هذا الموقف العربي والكردي الأساس لعلاقة صحيحة بين عرب وكرد العراق وبين العرب والكرد بشكل عام.
أعتقد أن على العرب أن يبددوا مخاوف الكرد بتقديم نقد ذاتي صريح وإعلان ذلك خصوصاً لما شاب العلاقات العربية الكردية من توترات واحتقانات سواء أيام محنة الكرد ومعاناتهم أو إزاء حقوقهم حاليا.
وعلى الكرد أن يبددوا مخاوف العرب إزاء ما يقال عن الاختراقات والتعاون بلا حدود مع الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الأول والأكبر والمنقذ، وبعض المبالغات التي لا تؤخذ بعين الاعتبار مستقبل العلاقات العربية الكردية وظروف المنطقة والمشترك العربي الكردي الذي ينبغي أن يكون هو الأساس وليس أي شيء آخر.
وإذا كان هناك من تحديات تخص العرب والكرد فإن التحدي الدولي هو التحدي الأول, خصوصا استمرار الوضع العراقي كما هو عليه من وجود قوات محتلة أو متعددة الجنسيات وانفلات أمني وعنف مستمر وغياب مرجعية الدولة وضعف مفهوم ومبدأ المواطنة والقسمة الإثنية الطائفية.
أما التحدي الثاني فهو التحدي الإقليمي الذي هو إحدى التحديات التي تعيق تطوّر الوضع العراقي بشكل سليم وبحكم التأثير والامتداد الإقليمي، والضغط على بعض القوى الداخلية لاستحقاقات إقليمية بما يعكر الوحدة الوطنية خصوصا بعض دول الجوار مثل تركيا وإيران.
حقوق المواطنة
التحدي الثالث من أهم التحديات هو التحدي الداخلي(الوطني)، فإذا كانت الحرية مقدمة للديمقراطية فإن المواطنة هي التحدي الأول للدولة القانونية، ومن دون مواطنة كاملة وتناوبية وتداولية لا يمكن تحقيق التعددية وضمان حق المواطن في الانتخاب الحر واختيار الحاكم، وفي ذلك إحدى ضمانات حقوق الإنسان.
ويحتاج الأمر إلى قدر من العقلانية في التعاطي مع تركة الماضي البغيض وإلى قدر من التسامح لتجاوز هذا الماضي, مع ضرورة إنصاف الضحايا أو عوائلهم في حالة وفاتهم وإدانة المرتكبين وكشف الحقيقة كما هي في الماضي والحاضر لكي لا تتكرر المآسي والآلام، وفي ذلك خطوة مهمة لسيادة مفاهيم حقوق الإنسان. ولكن قبل الحديث عن الديمقراطية وآلياتها لا بدّ من بناء الدولة، إذ لا ديمقراطية دون وجود دولة لها هيبتها وسلطتها ووحدتها.
وكلما ترسخت قاعدة الحريات الفردية والعامة وتمت إعادة النظر في القوانين والأنظمة السائدة وتخليصها من كل ما له علاقة بكبح حقوق الإنسان انتقلت الدولة من الاستبداد والتسلط إلى الحرية والديمقراطية.
"
ينبغي الاعتراف على قدر المساواة بحق القوميتين العربية والكردية في الاتحاد الاختياري في العراق على أساس الشراكة ومراعاة المناطق الجغرافية
"
ولإرساء دعائم علاقة كردية عربية متينة ينبغي الاعتراف على قدر المساواة بحق القوميتين والشعبين في الاتحاد الأخوي الاختياري على أساس الشراكة ومراعاة المناطق الجغرافية وهو ما اختاره الشعب الكردي في ظروف شبه طبيعية عندما صوّت برلمانه المنتخب -بشكل شرعي وبتأييد هيئات دولية رغم بعض النواقص والملاحظات- على الاتحاد الفيدرالي (4 أكتوبر/تشرين الأول 1992) وهو ما ينتظر أن يفعله الشعب العربي أيضا في ظروف سلمية وطبيعية.
ولم يكن من السهل على العديد من القوى قبل بيان 11 مارس/آذار 1970 قبول فكرة الحكم الذاتي، فما بالك بصيغة أرقى إذا ما تجاوز الأمر حدودها النظرية ومواقفها من القضية الكردية خصوصاً في ظروف ملتبسة وفي ظل الاحتلال، فالعودة إلى بعض الأطروحات القديمة التي تشكك في حقوق الشعب الكردي تجد لها ما يبررها، حيث يختلط الثانوي بالأساسي والتكتيكي واليومي بالإستراتيجي والبعيد المدى، والمسألة تشمل جميع الفرقاء.
وتجد اليوم من الفريقين من يدفع نحو القطيعة وذلك للشعور بالغرور والرغبة في الحصول على المكاسب على حساب الآخر أو بتعاظم نزعات الانكفاء على الذات أحيانا، وفي ظل اتهامات كل طرف للطرف الآخر.
ختاما لكي يستمر الحوار لا بد من الإقرار بقاعدة الاختلاف في الرأي وإقرار الرأي والرأي الآخر والتأكيد على ما هو مشترك، وهنا أقترح إيجاد إطار مؤسسي ومرجعيّة ثقافية للحوار ومأسسة هذا الحوار من خلال جدول عمل للتواصل الحضاري والثقافي. كما أقترح تأسيس معهد عربي كردي من شخصيات وقوى عربية وكردية أو للدراسات الشرقية, لكي يتم بحث علاقة الكرد مع العرب والشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها.
لنتذكر قولا مأثورا لكارل ماركس هو أن شعباً يضطهد شعبا آخر لا يمكن أن يكون حرّا، إن الشعور بالزهو لدى بعض أفراد القومية الكبرى يدفعهم إلى الاستعلاء وإلى محاولة مسخ القومية الأصغر ويظهر أحيانا نوعا من الشوفينية والتسلّطيّة، كما أن الاضطهاد المزمن والطويل الأمد يولد نوعاً من ضيق الأفق والانعزالية القومية باتجاه رفض ما هو مشترك بين الأمم والشعوب.
إن وضع هذه الأمور جميعها على طاولة البحث بروح الصراحة والشفافيّة يساعد على خلق أجواء صحية للحوار من خلال النقد والنقد الذاتي، إذ إنّ نقداً ذاتياً من بعض النخب العربية لبعض مواقفها السلبية إزاء القضية الكردية والاتهامات الجاهزة ضدّ الكرد كشعب وأمة وضدّ خياراتهم الحرة، وكذلك نقداً ذاتياً لمواقف بعض النخب الكردية الانعزالية وغير المبالية بالقضايا العربية وبشكل خاص الفلسطينية والموقف من الاحتلال ونتائجه وتقديم ما هو طارئ ومؤقت على ما هو ثابت وإستراتيجي كفيلٌ بتبديد الكثير من الشكوك والاتهامات وتصحيح المواقف والتصورات سواء إزاء القضية العامة أو إزاء وجهة نظر كل فريقٍ حول الآخر، وكل ذلك يمكن أن يتم في إطار عراق ديمقراطي موحد ومتحد وعلى أساس قانوني ودستوري واحترام حق المواطنة والمساواة التامة وحقوق الإنسان.