الكرد هم جماعة قومية وحدتها عوامل الجغرافيا والعرق والدين ومزقها التاريخ والمصالح الدولية، وخلق الوجود الكردي مشكلة كبيرة مست أمن واستقرار الدول الأربع التي يوجدون فيها بشكل رئيسي نتيجة عجز نظمها عن إيجاد آليات سياسية لاستيعاب الكرد ودمجهم في مجتمعاتها الوطنية، فتحولت تلك المشكلة إلى أزمة هوية حقيقية ظلت تعانيها تلك الدول منذ استقلالها وإلى اليوم.
التطلع المبكر للدولة
التعاطي مع الواقع
التطلع المبكر للدولة
"
ولدت آمال الكرد بدولتهم الموحدة المستقلة بعد إعلان مبادئ ولسون ومعاهدة سيفر لكن كل ذلك لم يكن غير ستار لإخفاء مآرب الدول الكبرى
"
إن من المفيد القول إن نهاية الحرب العالمية الأولى قد شكلت المنطلق الحقيقي لنمو الشعور الكردي المطالب بالحقوق القومية، إذ أخذت آمال الكرد في بناء دولتهم الموحدة في كردستان تتصاعد إثر إعلان الرئيس الأميركي ودرو ولسون عام 1918 لمبادئه الأربعة عشر حول تقرير المصير لأبناء الأقليات الموجودة في الدولة العثمانية (الكرد، الأرمن، الأشوريون). وقد جاءت معاهدة سيفر 1920 لتؤكد دور الحلفاء في ضمان حق الكرد بالتمتع بالحكم الذاتي تمهيدا لإقامة دولتهم المستقلة بعد سنة واحدة من إبلاغهم عصبة الأمم المتحدة برغبتهم تلك، إلا أن الواضح من سياق الأحداث التي مرت بها القضية الكردية فيما بعد أن تلك الاتفاقات والمبادئ لم تكن أكثر من ستار يخفي حقيقة المآرب السياسية للدول الكبرى في المنطقة، فقد استثمرت القضية الكردية وغيرها من قضايا القوميات بذكاء لإعادة تركيب الشرق الأوسط وبما يتوافق مع مرامي القوى المنتصرة في الحرب العالمية لتقطيع أوصال الدولة العثمانية المتهالكة.
وقد أثبتت أحداث المنطقة اللاحقة أن لغة المصالح تعلو على الثوابت الأخلاقية، وأن أي تعارض بينهما سيحسم قطعا لحساب مصالح القوى المهيمنة حتى وإن دفعت الشعوب المستضعفة ثمن ذلك، وهو ما حصل مع الشعب الكردي وغيره من شعوب المنطقة، إذ ضربت مبادئ ولسون حول تقرير المصير بعرض الحائط واستبدلت بحق الشعوب المستعمرة في إخضاع الشعوب المستعمرة لهيمنتها ونفوذها وفق نظام الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم عام 1918.
وتمكنت تركيا الكمالية بنفوذها المتعاظم التفاهم مع بريطانيا وفرنسا على استبدال معاهدة سيفر 1920 بمعاهدة لوزان 1923 التي لم تأت على أي ذكر للكرد وحقوقهم القومية، وهكذا كانت نتائج الحرب العالمية الأولى كارثية لحقوق الكرد وتطلعاتهم القومية، فوجدوا أنفسهم بعد حين من التطلع والترقب مشتتين بين دول حديثة وحدود مصطنعة وبواقع اجتماعي وسياسي، حتم عليهم الاندماج ألقسري بمشاريع وطنية مستحدثة سعت منذ البدء إلى قضم تطلعاتهم السياسية ووأد أي نزوع لبلورة هويتهم القومية عبر أساليب الإقصاء والإلغاء ومصادرة الحقوق والحريات والدمج الإجباري في إطار مجتمعات لم يألفوا العيش معها في ظل كيان سياسي واحد.
حدث هذا بشكل استفزازي حينما جحد مصطفى كمال أتاتورك جهود الكرد ودورهم في تحرير تركيا الحديثة عام 1922 واسترسل في تبني كل ما من شأنه أن يمحو الهوية الكردية وثوابتها في اللغة والعادات والرموز الثقافية الأخرى، مثلما ورد في المادة ( 88 ) من الدستور التركي التي أقرت بأن جميع سكان تركيا هم أتراك أيا كانت ديانتهم أو قوميتهم.
فشل العمل المسلح
إن هذا الأسلوب الإلغائي وإن لم يتكرر بذات الحدة في العراق وإلى حد ما في سوريا فإنه كان سببا لاستفزاز الكرد وإشعارهم أن مشاريع الدول التي ستبنى سيكون على حساب هويتهم القومية، مما شكل حافزا لبروز أولى ثورات الكرد للتخلص من الواقع السياسي الذي أقحموا فيه.
"
نشبت ثورات الكرد بعد ان واجهوا اسلوبا الغائيا نبههم الى ان الدول التي يجري انشاؤها في المنطقة ستكون على حسابهم
"
ففي العراق نجح الشيخ محمود الحفيد عام 1923في تجميع القبائل الكردية في السليمانية وإعلان الاستقلال عن جسد الدولة العراقية رافضا الدخول في المشروع البريطاني الخاص بإنشاء دولة عربية تفقد الكرد تميزهم القومي ومعلنا امتعاضه من تنصيب الملك فيصل الأول ملكا على عرش العراق، وفي تركيا تمكن الشيخ سعيد البيراني من حشد أصوات المعارضين لسياسة أتاتورك الإلغائية وأعلن ثورته عام 1925، وفي شمال غرب إيران استطاع إسماعيل أغا سيمكو أن يفرض سيطرته وينصب نفسه حاكما على كل كردستان إيران غرب بحيرة أرومية عام 1921.
ورغم فشل تلك الثورات فإنها أقرت حقيقة أن الهوية الكردية رهان صعب لا يقبل المساومة والتذويب، وأن مشروع الدولة الذي يبنى على الإقحام والقسر لن يناله النجاح إذا ما بني وفق أسلوب الجماعة الغالبة والأقلية المغلوبة، وهذا ما أثبتته ثورات الكرد اللاحقة التي عبرت عن تواصل شعورهم بغبن الإجراءات التي مورست لطمس وجودهم القومي وخصوصيتهم الثقافية.
لكن الفشل تكرر مع تلك الثورات بسبب طبيعتها القبلية وأخطائها العسكرية وصراعات الكرد الداخلية، إذ أن معضلة الكرد التاريخية هي انقساماتهم القبلية والعشائرية والتي لعبت دورا مؤثرا في بقاء المجتمع الكردي مفككا عبر التاريخ ومنعت قيام كيان كردي موحد، كما شكلت ميدانا خصبا لاستغلال القوى الإقليمية والدولية وتلاقيها في كثير من الأحيان لتطويق التداعيات الناجمة عن تصاعد المد القومي الكردي.
وبفشل تلك الثورات أحكمت تلك الدول قبضتها على المناطق الكردية ومارست سياسات قاسية بحقهم، سواء في تركيا حيث أزيلت كلمة كرد من القواميس أو في إيران حيث مارس الشاه رضا وابنه محمد رضا بهلوي سياسة قمع شديدة للكرد تضمنت القضاء على نواة أول دويلة كردية أسسها الكرد بمساعدة السوفيات في مهاباد عام 1946 بقيادة القاضي محمد.
وفي العراق استطاعت الحكومة العراقية الملكية وبالتعاون مع القوات البريطانية والقبائل الكردية الموالية القضاء على حركات الشيخ محمود الحفيد ومن بعده حركة الملا مصطفى البارزاني حيث ألجأت الأخير للهرب إلى إيران ومنها إلى الاتحاد السوفياتي حيث عاش فيه منفيا إلى عام 1958.
التعاطي مع الواقع
مما لا شك فيه أن سياسات القوة التي مارستها الحكومات ضد تطلعات الكرد قد ساهمت إلى حد بعيد في القضاء على نشاطهم العسكري وهو ما انعكس لاحقا في سقف مطالبهم السياسية التي أخذت بالتراجع شيئا ما، حيث أخذت مرحلة الستينيات والسبعينيات تشهد تغافلا كرديا عن لغة الانفصال والاستقلال وتركيزا على الحلول الوسطية القائمة على الحكم الذاتي الذي يحفظ للكرد شيئا من المنعة ضد سياسات الدمج والتهجير التي يواجهونها.
"
عاد الكرد إلى الحلول الوسطية وتغافلوا عن فكرة الانفصال بعد عقود من سياسة القوة ضدهم وحصلوا على تطمينات بلغت قمتها في بيان آذار 1970 في العراق
"
حصل ذلك في العراق إبان العهود الجمهورية التي ابتدأت عام 1958 والتي عبر فيها كل من الزعيمين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف عن رغبتهما في منح الكرد حكما ذاتيا يبدد هواجسهم القومية من هيمنة الغالبية العربية، وقد بلغت قمة تلك التطمينات في مارس/آذار عام 1970حينما وقعت حكومة الرئيس أحمد حسن البكر اتفاقا مع الملا مصطفى البارزاني لإعلان الحكم الذاتي في إقليم كردستان حيث مثل ذلك الاتفاق رغم الاعتراضات التي وردت عليه داخليا وخارجيا، نقلة نوعية في ترجمة الحقوق القومية الكردية إلى واقع ملموس.
وقد شكل الحكم الذاتي في العراق أحد مفاتيح الحل السياسي التي بدأت حكومات المنطقة تعي أهميتها لحل أزمة الهوية التي تعانيها مجتمعاتها وهو ما أدركته الحكومة التركية كذلك مع منتصف الثمانينيات، حينما أعلنت عن خطة اقتصادية لتنمية مناطق جنوب شرق تركيا التي تموج بالثورة والتمرد.
وشكل مشروع الأناضول والذي قدرت كلفته بأكثر من (20) مليار دولار أهم الآليات التي استندت إليها الحكومة التركية لخلق بنية زراعية وتنموية في المناطق الكردية وتوسيع فرص العمل لنسبة كبيرة من الكرد العاطلين عن العمل بهدف التخفيف من آثار التمرد الكردي على الأمن التركي، وقد تعزز هذا التوجه في عهد رئيسة الوزراء السابقة تانسو تشيلر 1995 وعهد رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان الذي زار المناطق الكردية أكثر من مرة وشدد على ضرورة الحل السلمي لمعالجة الفقر والإهمال اللذين يقفان وراء تأجيج مشاعر الحقد والتمرد في المناطق الكردية، وقد ترافقت تلك الخطوات مع إجراءات عملية كان أولها رفع القيود على تكلم الكرد بلغتهم القومية عام 1992 والسماح لهم بالاحتفال بمناسباتهم القومية.
وشهد العام 2005 افتتاح أول فضائية تركية ناطقة باللغة الكردية وشهدت أنقرة في مارس/آذار 2006 إقامة أول مؤتمر أكاديمي في تركيا لمناقشة سبل حل المسألة الكردية من قبل أساتذة جامعات تركية وأجنبية مما يمهد الطريق أمام تواصل الحلول السلمية للمسألة الكردية نظرا للتكلفة العالية التي استنزفتها الحلول العسكرية والأمنية طيلة العقود الماضية، ولكن دون أن يعني ذلك بالمطلق التخلي عن الجهود العسكرية الرامية إلى تشذيب الآثار العسكرية لهجمات حزب العمال الكردستاني التركي على الأمن التركي، وتداعيات التقدم السياسي والأمني الحاصل لكرد العراق، والتخوف التركي من انتقال عدواه إلى مناطقها الكردية الملتهبة لا سيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل/نيسان 2003.
المنعطف الحاسم
إن الاسترسال في تحليل دوافع تبلور الهوية الكردية لابد أن يدفعنا أخيرا إلى تلمس أبعاد تصاعد المد القومي الكردي في العراق، وعلى النحو الذي أخذ يسفر عن إمكانية قيام دولة كردية شمال العراق لا سيما بعد عقد التسعينيات.
"
شكلت حرب الخليج الثانية منعطفا حاسما في مسار كرد العراق وأحيت من جديد مشروعهم القومي ولكن بصيغة فدرالية
"
وقد شكلت حرب الخليج الثانية عام 1991 منعطفا حاسما في مسار الحركة الكردية في العراق، وتركت الرعاية الأميركية الغربية التي حظيت بها المنطقة الكردية بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت إثرها، في تصاعد طموحات الكرد لتحقيق مشروعهم القومي ولكن بصيغة فدرالية تعد أكثر تقدما من الناحية السياسية والدستورية من صيغة الحكم الذاتي التي كانوا يطالبون بها من قبل، وساعد نجاح الأحزاب الكردية في ملء الفراغ الذي أحدثه انسحاب مؤسسات الدولة بإنشاء إدارة محلية وبرلمان وحكومة في تعزيز ثقة الكرد بنفسهم وقدرتهم على إدارة دولة.
وقد أدت السنوات الأربع عشرة التي عاشها إقليم كردستان في تعميق الشعور الكردي بالذاتية القومية، فقد نشأت أجيال كردية بعيدة عن تأثيرات المركز وانعكاساته النفسية على سلوكيات المواطن، كما تأسس فهم جديد لمستقبل العلاقة المقبلة مع الدولة العراقية.
وساعد التحالف الأميركي الكردي في زيادة اقتناع قطاعات واسعة من الشعب الكردي بأن الحماية الأميركية لإقليم كردستان خلال مرحلة التسعينيات والعلاقة المتميزة التي ربطت الفصائل الكردية بالولايات المتحدة، ستكون خير عون لهم لتحقيق مطالبهم المتعلقة بحق تقرير المصير وبالشكل الذي يرغبون به، لا سيما فيما يتعلق بالفدرالية التي أقرها إقليم كردستان عام 1992 كصيغة قانونية تربط علاقة الإقليم بالحكومة المركزية في بغداد، وعلى نحو يؤسس مطالب الكرد بالفدرالية على أسس واقعية، دون أن يخفي القادة الكرد أن مطلب الفدرالية الذي ثبته الكرد في واقعهم السياسي المعاصر إنما يمثل مرحلة أولية في طريق الحصول على تقرير المصير وإقامة دولة كردية في المراحل المقبلة.
استعادة الامل
ساهم الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل/نيسان 2003 في تعزيز فكرة الدولة في المدرك الكردي، حينما أتاح للكرد تثبيت وجودهم في الخارطة العراقية الجديدة ابتداء من عضويتهم الفاعلة في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في يوليو/تموز 2003 وانتهاء بقانون إدارة الدولة العراقية في مارس/آذار 2004 والدستور العراقي الدائم في أكتوبر/تشرين الأول 2005 والذي أقر بالصيغة الفدرالية للدولة العراقية وبحق الكرد في الحكم الفدرالي لإقليم كردستان وباللغة الكردية لغة رسمية ثانية إلى جانب العربية وبإعادة تطبيع الأوضاع في مدينة كركوك وبما يسمح بالسيادة الكردية عليها مستقبلا، فضلا عن اعترافه بالواقع السياسي والأمني الذي عاشه إقليم كردستان في السنوات الماضية منسلخا عن السيادة العراقية لا سيما لجهة احتفاظ الأحزاب الكردية بمليشياتها العسكرية (البيشمركة) وسيطرتها الاقتصادية على موارد المنطقة الكردية من النفط والضرائب والمطالبة بربع ميزانية الدولة العراقية.
"
كرس الاحتلال الأميركي للعراق فكرة الدولة في المدرك الكردي بعد أن تم تثبيت وجودهم الفاعل في الخارطة العراقية الجديدة
"
وفضلا عن ذلك فقد منع تنفيذ قرارات الحكومة المركزية دون موافقة البرلمان الكردي المسبقة والضغط للحصول على أكبر قدر ممكن من الوزارات السيادية في أي حكومة تتشكل في بغداد، ولازال الكرد متواصلين في استثمار أي فرصة تزيد من مكتسباتهم السياسية لا سيما وأن الواقع الأمني والسياسي المنفلت في العراق يتيح لهم قدرة المناورة والمراهنة على أي خيار سياسي بما في ذلك الانفصال عن العراق في أي لحظة يمكن أن تنزلق فيها البلاد إلى حرب أهلية، وهو ما صرح به مسعود البارزاني أكثر من مرة.
يبقى القول أخيرا إنه ورغم اقتناعنا بأن الهوية الكردية في العراق قد بلغت مرحلة من التبلور لا يمكن لجمها، فإننا مقتنعون كذلك بأن اللحظة الدولية لم تحن بعد لتمنح تلك الهوية شرعية الولادة السياسية، إذ أن أبعاد التحالف الكردي الأميركي له حدوده وشروطه ونهاياته، فطالما ترك الكرد ضحايا على مذبح المصالح الأميركية والبريطانية وسياساتهما الذرائعية في المنطقة.
ولا نظن أن القادة الكرد غافلون عن تلك الحقيقة، وهو ما يدفعنا للقول بضرورة أن ينصب نضال الكرد في المرحلة المقبلة على تثبيت مكتسباتهم القومية التي حصلوا عليها في العراق، ولكن بشروط جديدة تقتضيها مرحلة التعايش في عراق جديد يستوعب الجميع، وهو ما يتطلب من الكرد طرح فهم جديد لهويتهم القومية يجردها من مشروعها السياسي الانفصالي لتبديد مخاوف الشركاء الآخرين في الوطن.
وعلى الكرد الاقتناع بأن الهوية القومية باتت في عالم اليوم انتماء ووجودا قبل أن تكون مشروعا سياسيا، وفي واقع العراق المعاصر حيث سياسات الاحتلال الأميركي ومراهناته على توظيف الانفعالات الطائفية والعرقية الملتهبة في العراق لا ينبغي أن تصنع من الكرد معولا يستخدمه الاحتلال لهدم العراق وتفكيك وحدته الوطنية، إنما المطلوب منهم البحث عن مشتركات وفرص للتلاقي مع شركاء الوطن الآخرين لإيجاد آليات ديمقراطية تؤسس لفهم جديد للمواطنة يلغي الاضطهاد القومي والطائفي وينمي دولة القانون التي يتساوى في ظلها الجميع. _______________
باحث وأكاديمي عراقي